الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي برسالة، أقوال ثلاثة.والظاهر الأول، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم.ألا ترى إلى قوله: {قل} قل، و{فإنه نزله على قلبك}، {ولقد أنزلنا إليك}، فصار ذلك كالالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب، ووصف بقوله: {من عند الله مصدّق}: تفخيمًا لشأنه، إذ الرسول على قدر المرسل.ثم وصف أيضًا بكونه مصدّقًا لما معهم، قالوا: وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو تصديقه: إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله، وأنه المنزل على موسى، أو تصديقه: إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة، أقوال أربعة.وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز.وقرأ ابن أبي عبلة: مصدّقًا بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله: {من عند الله} {لما معهم}: هو التوراة.وقيل: جميع ما أنزل إليهم من الكتب، كزبور داود، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب}: الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثانٍ لأتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي.وقد تقدّم القول في ذلك.{كتاب الله}: هو مفعول بنبذ.فقيل: كتاب الله هو التوراة.ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع.وقيل: الإنجيل، ونبذهم له: اطراحه بالكلية.وقيل: القرآن، وهذا أظهر، إذ الكلام مع الرسول.فصار المعنى: أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة، وهم بالعكس، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه.وأضاف الكتاب إلى الله تعظيمًا له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم، إذ جاءهم من عند الله بكتابه الصدّق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب، فنبذوه {وراء ظهورهم}، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة.تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق: وقالت العرب ذلك، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه، ومنه: {واتخذتموه وراءكم ظهريًا} وقال في المنتخب: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.{كأنهم لا يعلمون}: جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة.ومتعلق العلم محذوف، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد.وقال الشعبي: هو بين أيديهم يقرأونه، ولكنهم نبذوا العمل به.وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه. انتهى كلامه.وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة.وقال الماوردي: كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق.وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق، والعمل به واجب. اهـ.
خلاف الظاهر {مِنْ عِندِ الله} متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} أي من التوراة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وإخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم ما على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل، وقرأ ابن أبي عبلة: {مُصَدّقًا} بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة.{نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام كما توهمه بعضهم من اللحاق لأن النبذ عند مجئ النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصور منهم، وإفراد هذا النبذ بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى: {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا} [البقرة: 00 1] الخ، لأنه معظم جناياتهم، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد.والمراد بالإيتاء إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل، ولم يقل: فريق منهم إيذانًا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنه من النبذ.{كتاب الله} مفعول {نَبَذَ} والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن، فهذا قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ} الخ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة وهو متحقق بالنسبة إليها وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها، أو ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل وليس بشيء وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيمًا له وتهويلًا لما اجترءوا عليه من الكفر به.{وَرَاء ظُهُورِهِمْ} جمع ظهر وهو معروف، ويجمع أيضًا على ظهران وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هاهنا ما كان مستعملًا هناك وهو النبذ وراء الظهر والعرب كثيرًا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله: ويقولون أيضًا: جعل هذا الأمر دُبُرَ أذنه ويريدون ما تقدم.{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أولا يعلمه أصلًا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون؛ وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيًا وحسدًا، وجعل المتعلق أنه نبي صادق بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا} [البقرة: 00 1] الخ، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمُ} الخ بناءً على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جُلّ اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم ب {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 00 1] وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرًا ونبذوها سرًا؛ وهم المتجاهلون. اهـ.
|